الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب (نسخة منقحة)
.الفصل الثالث في ذكر ما كان لهذا الجيل قديما وحديثا من الفضائل الإنسانية والخصائص الشريفة الراقية بهم إلى مراقي العز ومعارج السلطان والملك. قد ذكرنا ما كان من أمر هذا الجيل من البربر ووفور عدده وكثرة قبائلهم وأجيالهم وما سواه من مغالبة الملوك ومزاحمة الدول عدة آلاف من السنين من لدن حروبهم مع بني إسرائيل بالشام وخروجهم عنه إلى أفريقية والمغرب وما كان منهم لأول الفتح في محاربة الطوالع من المسلمين أولا ثم في مشايعتهم ومظاهرتهم على عدوهم ثانيا من المقامات الحميدة والآثار الجميلة وما كان لوهيا الكاهنة وقومها بجبل أوراس من الملك والعز والكثرة قبل الإسلام وبعده حتى تغلب عليهم العرب وما كان لمكناسة من مشايعة المسلمين أولا ثم ردتهم ثانيا وتحيزهم إلى المغرب الأقصى وفرارهم أمام عقبة بن نافع ثم غلبهم بعد ذلك طوالع هشام بأرض المغرب.قال ابن أبي زيد: إن البربر ارتدوا بأفريقية المغرب إثنتي عشرة مرة وزحفوا في كلها للمسلمين ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير وقيل بعدها وتقدم ذكر ما كان لهم في الصحراء والقفر من البلاد وما شيدوا من الحصون والآطام والأمصار من سجلماسة وقصور توات وتجورارين وفيجيج ومصاب وواركل وبلاد ريفة والزاب ونفزاوة والحمة وغذامس ثم ما كان لهم من الأيام والوقائع والدول والممالك ثم ما كان بينهم وبين طوالع العرب من بني هلال في المائة الخامسة بأفريقية وما كان لهم مع دولة آل حماد بالقلعة ومع لمتونة بتلمسان وتاهرت من الموالاة والانحراف وما استولى عليه بنو يادين آخرا بإسهام الموحدين وأقطاعهم من بلاد المغرب وما كان لبني مرين في الاجلاب على عير عبد المؤمن من الآثار وما تشهد أخباره كلها بأنه جيل عزيز على الأيام وأنهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم كثير جمعهم مظاهرون لأمم العالم وأجياله من العرب والفرس ويونان والروم.ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولا للدول وعبيدا للجباية واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك وإلا فقد كانت أوربة أميرهم كسيلة عند الفتح كما سمعت وزناتة أيضا حتى أسر أميرهم وزمار بن مولات وحمل إلى المدينة إلى عثمان بن عفان ومن بعد ذلك هوارة وصنهاجة وبعدهم كتامة وما أقاموا من الدولة التي ملكوا بها المغرب والمشرق وزاحموا بني العباس في ديارهم وغير ذلك منهم كثير وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الأمم ومراعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل ورعي الأذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكارم والثبات في الشدائد وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام ورحمة المسكين وبر الكبير وتوفير أهل العلم وحمل الكل وكسب المعدوم وقرى الضيف والإعانة على النوائب وعلو الهمة وإباية الضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملك وبيع النفوس من الله في نصر دينه فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون إسوة لمتبعيه من الأمم وحسبك ما اكتسبوه من حميدها واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز وأوفت بهم على ثنايا الملك حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت في الخلق بالقبض والبسط أحكامهم وكان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى بلكين بن زيري الصنهاجي عامل أفريقية للعبيدين ومحمد بن خزر والخير ابنه وعروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبد الله الشيعي ويوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب وعبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين وصاحب الإمام المهدي وكان عظماؤهم من أهل الطبقة الثانية السابقون إلى الراية بين دولهم والمعاهدون لملكهم بالمغرب الأقصى والأوسط كبيرهم يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين ويغمراسن بن زياد سلطان بني عبد الواد ومحمد بن عبد القوي ووزمار كبير بني توجين وثابت بن منديل أمير مغراوة أهل شلف ووزمار بن إبراهيم زعيم بني راشد المتعارضين في أزمانهم المتناغين في تأثيل عزهم والتمهيد لقومهم على شاكلته بقوة جمعه فكانوا من أرسخهم في تلك الخلال قدما وأطولهم فيها يدا وأكثرهم لها جمعا طارت عنهم في ذلك قبل المالك وبعده أخبار عني بنقلها الأثبات من البربر وغيرهم وبلغت في الصحة والشهرة منتهى التواتر وأما إقامتهم لمراسم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين كتاب الله لصبيانهم والاستفتاء في فروض أعيانهم واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم وتدارس القرآن بين أحيائهم وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم وصاغيتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم للبركة في آثارهم وسؤال الاعداد عن صالحيهم وإغشائهم البحر أفضل المرابطة والجهاد وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم وصحة معتقداتهم ومتين ديانتهم التي كانت ملاكا لعزهم ومقادا إلى سلطانهم وملكهم.وكان المبرز منهم في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي وبنوهم ثم يعقوب بن عبد الحق من بعدهم وبنوه فقد كان لهم في الاهتمام بالعلم والجهاد وتشييد المدارس واختطاط الزوايا والربط وسد الثغور وبذل النفس في ذات الله وإنفاق الأموال في سبيل الخيرات ثم مخالطة أهل العلم وترفيع مكانهم في مجالستهم ومفاوضتهم في الاقتداء بالشريعة والانقياد لإشاراتهم في الوقائع والأحكام ومطالعة سير الأنبياء وأخبار الأولياء وقراءتها بين أيديهم من دواوين ملكهم ومجالس أحكامهم وقصور عزهم والتعرض بالمعاقل لسماع شكوى المتظلمين وإنصاف الرعايا من العمال والضرب على يد أهل الجور واتخاذ المساجد بصحن دورهم وشدة خلافهم وملكهم يعمرونها بالصلوات والتسبيحات والقراء المرتبين لتلاوة كتاب الله أحزابا بالعشي والإشراق على الأيام وتحصين ثغور المسلمين بالبنيان المشيد والكتائب المجهزة وإنفاق الأموال العريضة شهدت لهم بذلك آثار تخلفوها بعدهم.وأما وقوع الخوارق فيهم وظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم فقد كان فيهم من الالولياء المحدثين أهل النفوس القدسية والعلوم الموهوبة ومن حملة العلم عن التابعين ومن بعدهم من الأئمة والكهان المفطورين على المطلع للأسرار المغيبة.ومن الغرائب التي خرقت العادة وأوضحت أدلة القدرة ما يدل على عظيم عناية الله بذلك الجيل وكرامته لهم بما آتاهم من جماع الخير وآثرهم به من مذاهب الكمال وجمع لهم من متفرق خواص الإنسان ينقل ذلك في أخبار توهم عجائب فكان من مشاهير حملة العلم فيهم سعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى العباس ذكره عريب بن حميد في تاريخه ومنهم أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني صاحب الحمار الخارج على الشيعة سنة اثنتين وثلثمائة الدائن بدين الخارجية أخذ العلم بتوزر عن مشيختها ورأس في الفتيا وقرأ مذاهب الإضافية من الخوارج وصدق فيه ثم لقي عمارا الأعمى الصفري النكار فتلقن عنه من مذاهبهم ما انسلخ من آية السعادة بانتحاله وهو مع ذلك من الشهرة في هذا الجيل بحيث لا يغفل.ومنهم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة من ظواعن ولهاصة ثم من سوماتة منهم مولده عام عشرة وثلثمائة ووفاته عام ثلاثة وثمانين وثلثمائة كان من البتر من ولد مادغيس هلك على عهد عبد الرحمن الناصر ومنهم أيضا أبو محمد بن أبي زيد علم الملة وهو من نفزة أيضا ومنهم علماء بالنسب والتاريخ وغير ذلك من فنون العلوم.ومن مشاهير زناتة أيضا موسى بن صالح الغمري معروف عند كافتهم معرفة وضوح وشهرة وقد ذكرناه عند ذكر غمرة من شعوب زناتة وهو وإن لم توقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره في دينه فهو من محاسن هذا الجيل الشاهدة بوجود الخواص الإنسانية فيهم من ولاية وكهانة وعلم وسحر كل نوع من آثار الخليفة.ولقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام ويذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد ودلت على أنه موهبة من الله استأثره بها لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته وربما ضاقت حوامل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة ويجهلون ما يتسع لها ولأمثالها من نطاق القدرة وينقلون أن حملها كان أثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع كانت ترد فيها على الناس ويردون عليها ويرون أنها علقت من فضل ولوغه ويسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خلعة الشجاعة فيه وكثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين ولم يزل هذا دأبهم وحالهم إلى أن مهدوا من الدول وأثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره.
|